فصل: مسألة الأنصار وإيثار المهاجرين عليهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الأنصار وإيثار المهاجرين عليهم:

قال: وسمعت مالكا يقول حدثني يحيى بن سعيد، عن «أنس بن مالك، أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ دعا الأنصار فأراد أن يقطع لهم بالبحرين، فقالوا: لا يا رسول الله، حتى نقطع لإخواننا من المهاجرين، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ستصيبكم أثرة من بعدي، فاصبروا حتى تلقوني.
»
قال محمد بن رشد: مصداق هذا الحديث في كتاب الله حيث يقول في ثنائه على الأنصار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9]- الآية. نزلت في الذي ضافه منهم ضيف، فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته نومي الصبية وأطفئي السراج، فجعل يري ضيفه أنه يأكل معه ولا يأكل.

.مسألة حلف في أمر قد سلف لو كان كذا وكذا لفعلت كذا وكذا مما يمكنه فعله:

قال: وسمعت مالكا يقول: لما نزلت هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66]- الآية. فقال أبو بكر والذي بعثك بالحق إن كنت لفاعلا.
قال محمد بن رشد: لا شك أن أبا بكر من القليل الذي استثنى الله تعالى في الآية، فلا أحد أحق بهذه الصفة منه، ويمينه على ذلك برة؛ وفي هذا حجة لرواية ابن الماجشون عن مالك فيمن حلف في أمر قد سلف: لو كان كذا وكذا، لفعلت كذا وكذا- مما يمكنه فعله لا حنث عليه، خلافا لقول أصبغ أنه حانث؛ لأنه لا يدري هل كان يفعل أو لا يفعل.

.مسألة المبادرة بالأعمال قبل حلول الآجال:

قال مالك: بلغني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مثلي ومثلكم، مثل قوم بعثوا طليعة إلى عدوهم، فأراد أن يرجع إليهم، فأعجله ما رأى منهم أن يرجع إليهم فألاح إليهم، أتيتم، أتيتم».
قال محمد بن رشد: هذا مثل ضربه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقرب قيام الساعة، والحض على المبادرة بالأعمال قبل حلول الآجال، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بعثت أنا والساعة كهاتين». «ولما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، ناداهم فقال: اعملوا إلى ما عند الله، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، وقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

.مسألة خصاء الخيل:

وقال مالك: في الفرس إذا كلب وامتنع، فلا أرى بخصاه بأسا- إذا كان على هذا الوجه.
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهي عن خصاء الخيل، ومعنى ذلك عند مالك إذا فعله لغير ضرورة، بدليل هذه الرواية، وبالله التوفيق.

.مسألة الرهبان في ديارات ليس في صوامع أيسبون:

ومن سماع أشهب وابن نافع من مالك رواية سحنون من كتاب الجهاد قال أشهب: سمعت مالكا وسئل عن الرهبان، فقيل إنهم يعتزلون في ديارات ليس في صوامع، أيسبون؟ قال: لا أرى أن يهاجوا، فقيل له وسواء عليك الرهبان في الديارات، أو أصحاب الصوامع؟ قال هاه يقول الله سبحانه وتعالى: {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82]- الآية. ولم ير أن يهاجوا، فقيل له فالرهبان من النساء؟ قال النساء عندنا- والله- أحق ألا يهجن.
قال محمد بن رشد: إنما سأله عن الرهبان إذا اعتزلوا في الديارات، ولم يعتزلوا في الصوامع؛ لما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نهيه عن قتل أصحاب الصوامع، روي عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا بعث جيوشه، قال: «اخرجوا بسم الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع». فرأى مالك لرهبان الديارات حكم رهبان الصوامع، لاستوائهم في العلة التي من أجلها نهى عن قتلهم- وهي اعتزالهم لأهل دينهم، وترك معونتهم لهم بقتال أو رأي؛ واستدل أيضا بظاهر قوله عز وجل، {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82]. إذ لم يخص لترهبهم موضعا من موضع، وقد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه نهى عن قتال الرهبان، ولم ينه عن قتلهم لخير عندهم، بل هم أبعد من الله، لاستبصارهم في كفرهم، وإنما نهى عن قتلهم، لاعتزالهم أهل دينهم، وترك معرنتهم لهم بيد أو رأي؛ مع أنه ظاهر قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29]- الآية؛ لأن المقاتلة مفاعلة من الفريقين، ودليل قول الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ في المرأة التي وقف عليها وهي مقتولة، فقال «هاه ما كانت هذه تقاتل». إذ يدل ذلك من قوله على أنه إنما يقتل من أهل الكفر من يقاتل، وكما لا يقتل الرهبان فلا يسبون- رجالا كانوا أو نساء،- وهو ظاهر هذه الرواية، وقد قيل في الرهبان من النساء أنهن يسبين- ذكره ابن سحنون؛ ووجه قول مالك، إن الرهبان من النساء تبع لرجالهم في ألا يسبوا، كما أن النساء من غير الرهبان تبع لرجالهم في أنهم يسبون، ووجه قول سحنون إن النساء لما كن بمنزلة سواء في أنهن لا جزية عليهن ولا يقتلن، رواهب كن أو غير رواهب. وجب أن يكن بمنزلة سواء في أنهن يسبين رواهب كن أو غير رواهب، وكما لا يقتل الرهبان ولا يسبون، فلا تضرب عليهم الجزية؛ لأن الجزية إنما هي ثمن لتأمينهم، وحقن دمائهم؟ وقد اختلف فيمن ترهب من أهل الذمة بعد أن وضعت عليه الجزية، فقيل إنها توضع عنه، وهو قول ابن القاسم، وظاهر قول مالك وسفيان الثوري وأبي حنيفة في الواضحة؛ وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك أيضا أنها لا توضع عنه. وقد روي عن مالك أن الرهبان يقتلون؛ لأن فيهم التدبير والبغض للدين، فهم أنكأ من غيرهم، وكذلك الشيخ الكبير الذي لا يدع الجيوش والسرايا، وقع ذلك في بعض روايات المدونة.

.مسألة افتداء من أسر:

وسئل مالك، أواجب على المسلمين افتداء من أسر منهم؟ قال: نعم، أليس واجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم؟ قال: بلى. قال: فكيف لا يفتدونهم بأموالهم؟ قال: قال عمر بن الخطاب: ما أحب أن افتتح حصنا من حصونهم بقتل رجل من المسلمين.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك هذا، أن ذلك واجب على الجملة، لقوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «فكوا العاني». لأنه أمر فهو محمول على الوجوب، بدليل ما احتج به مالك في الرواية، فواجب على الإمام أن يفك أسارى المسلمين من بيت مالهم، فما قصر عنه بيت المال، تعين على جميع المسلمين في أموالهم- على مقاديرها، ويكون هو كأحدهم- إن كان له مال، فلا يلزم أحدا في خاصة نفسه من فك أسرى المسلمين، إلا ما يتعين عليه في ماله على هذا الترتيب؛ فإذا ضيع الإمام والمسلمون ما يجب عليهم من هذا، فواجب على كل من كان له مال من الأسارى، أن يفك نفسه من ماله؛ إذ لا يحل له أن يبقي نفسه أسيرا في دار الكفر، ويمسك ماله، وهذا وجه قول مالك، وأكثر العلماء يقولون إن من فك أسيرا بغير أمره وله مال، أن له أن يرجع عليه بما فداه به، وقد قيل لا يرجع عليه بشيء، روي ذلك عن ابن سيرين، والحكم، وغيرهما، واحتج بعض من ذهب إلى هذا بأن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: «فكوا العاني». فإنما يجب ذلك على المسلمين، فلا يعود ذلك على الأسير- وهو قول له وجه إذا حملنا قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ «فكوا العاني»، على عمومه فيمن له مال وفيمن ليس له مال؛ لأن الأول أظهر، ويحتمل أن يكون معنى الحديث فيمن لا مال له، فلا يلزم أحد أن يفتك من له مال، ولا يلزم الإمام ذلك أيضا من بيت مال المسلمين، إلا أن يرى ذلك على وجه النظر كالجائزة يجيزها لمن له مال؛ وأما من فدى أسيرا لا مال له بغير أمره، فالصحيح الذي يوجبه النظر والقياس، أنه ليس له أن يتبعه بما فداه به؛ لأن ذلك إنما يتعين على الإمام وجميع المسلمين، وظاهر الروايات خلاف ذلك وهو بعيد.

.مسألة الإمام مخير في الأسارى:

قال: وسئل مالك عن قول عمر بن الخطاب لا يجلب إلينا من هؤلاء العلوج أحد مرت عليه المواسى؛ ما تراه أراد بذلك؟ فقال: أراد بذلك ألا يستحيوا.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك أن الإمام مخير في الأسارى على وجه الاجتهاد بين خمسة أشياء: إما أن يقتل، وإما أن يأسر ويستعبد، وإما أن يعتق، وإما أن يأخذ فيه الفداء، وإما أن يعقد عليه الذمة ويضرب عليه الجزية؛ لأنه استعمل الآيات الواردة في ذلك في القران، وفسر بعضها ببعض، ولم ير فيها ناسخا ولا منسوخا؛ فإن كان الأسير من أهل النجدة والفروسية والنكاية للمسلمين، قتله ولم يستحيه، وإن لم يكن على هذه الصفة وامتدت عليه غائلته وله قيمة استرقه للمسلمين، أو قبل فيه الفداء، إن بذل فيه أكثر من قيمته، وإن لم تكن له قيمة ولا فيه محمل لأداء الجزية، كالزمنى أعتقه؛ وإن لم تكن له قيمة وفيه محمل لأداء الجزية، عقد له الذمة، وضرب عليه الجزية، واختلف قوله- إذا لم يتعرف حاله: هل هو من أهل النجدة والفروسية، أو له غائلة، أم لا؟ فمرة قال: إنه لا يقتل إلا أن يكون معروفا بالنجدة والفروسية، أو تعرف له غائلة، ومرة قال: إنه يقتل ويحمل إن لم يكن معروفا بالنجدة والفروسية على أن له غائلة؟ وهو الذي ذهب إليه عمر بن الخطاب في هذا الحديث، وإن رأى الإمام باجتهاده مخالفة ما وصفناه من وجوه الاجتهاد، كان ذلك له، مثل أن يبذل الفارس المعروف بالنجدة والفروسية في نفسه المال الواسع الكثير، فيرى الإمام أخذه أولى من قتله، لاستعانته بذلك على جهاد المشركين، وما أشبه ذلك من وجوه الاجتهاد؛ فهذا تحصيل القول في حكم الأسارى على مذهب مالك. ومن أهل العلم من قال: إن الأسير يقتل على كل حال، لقوله عز وجل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ} [الأنفال: 57]- الآية، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يجوز قتل الأسير- صبرا، لقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]. والصحيح ما ذهب إليه مالك رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لأن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قتل وأسر، فوقع فعله موقع البيان لما في القرآن؛ لأن قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]- الآية، معناه قبل الإثخان. وقوله عز وجل: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]- الآية، ليس على الإلزام، وإنما معناه إباحة شد الوثائق وترك القتل بعد الإثخان؛ بدليل قوله، عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]. وقد حكى الداودي أن أكثر أصحاب مالك يكرهون فداء الأسرى بالمال، ويقولون: إنما كان ذلك ببدر؛ لأن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ علم أنه سيظهر عليهم، وإنما يتفق على جواز فدائهم بأسرى المسلمين.

.مسألة بأرض الروم أشجارا تبلغ إذا حملت إلى أرض العرب ثمنا كثيرا حكم جلبها:

قال: وقيل له إنه يقال إن بأرض الروم أشجارا تبلغ إذا حملت إلى أرض العرب ثمنا كثيرا، وشأنها هنالك خفيف، وحملها يسير، قال: ما أرى بهذا بأسا، وإن أخذه للبيع وإن جاء بذلك العود وتلك الشجرة إلى صاحب المقاسم، لم يقبله ولم يقسم على الجيش.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: أنه إذا لم يكن لها ثمن في بلاد العرب، ولا قبلها صاحب المقاسم؛ فله أن يأخذها، ولا اختلاف في ذلك أعلمه؛ وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم نذر سنة يصومها منه.

.مسألة يحمل على الجيش من العدو وحده:

قال: وسئل مالك. عن رجل من المسلمين يحمل على الجيش من العدو وحده، قال: قال الله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]- الآية. فجعل كل رجل برجلين بعد أن كان كل رجل بعشرة، فأخاف هذا يلقي بيده إلى التهلكة وليس ذلك بسواء أن يكون الرجل في الجيش الكثيف فيحمل وحده على الجيش، وأن يكون الرجل قد خلفه أصحابه بأرض الروم أحاطوه فتركوه بين ظهراني الروم، فهو يخاف الأسر فيستقتل فيحمل عليهم، فهذا- عندي- خفيف، والأول عندي في كثف وقوة، وليس إلى ذلك بمضطر، يختلف أن يكون الرجل يحمل احتسابا بنفسه على الله، كما قال عمر بن الخطاب الشهيد من احتسب نفسه على الله، أو يكون يريد بذلك السمعة والشجاعة.
قال محمد بن رشد: أما إذا فعل ذلك إرادة السمعة والشجاعة، فلا إشكال ولا اختلاف في أن ذلك من الفعل المكروه؛ وأما إن اضطر إلى ذلك بإحاطة العدو به، ففعله مخافة الأسر، فلا اختلاف في أن ذلك من الفعل الجائز، إن شاء أن يستأسر، وإن يشاء أن يحمل على العدو ويحتسب نفسه على الله، وأما إذا كان في صف المسلمين وأراد أن يحمل على الجيش من العدو وحده محتسبا بنفسه على الله، ليقوي بذلك نفوس المسلمين ويلقي به الرعب في قلوب المشركين؛ فمن أهل العلم من كرهه ورآه مما نهى الله عنه من الإلقاء إلى التهلكة، لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. وممن روي ذلك عنه عمرو بن العاص، ومنهم من أجازه واستحبه لمن كانت به قوة عليه- وهو الصحيح، وروي أن جعفر بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين لاحمه القتل يوم مؤتة، اقتحم عن فرس له شقراء ثم عرقبها وقاتل حتى قتل، فلم ينكر ذلك عليه من كان معه من بقية الأمراء وسائر الصحابة، ولا أنكره النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عليه، إذ لا شك في تناهي علم ذلك إليه، ولا نهى المسلمون عن مثل ذلك؛ فدل على أن ذلك من أجل الأعمال، وأن الثواب عليه أعظم الثواب؛ وروي أن رجلا خرج من صف المسلمين بالقسطنطينية، فحمل على الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إليهم، فصاح الناس به سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير تأويلها، إنما أنزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه، قلنا فيما بيننا سرا من رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ: إن أموالنا قد ضاعت، فلو قمنا فيها فأصلحنا منها ما ضاع، فأنزل الله عز وجل في كتابه- يرد علينا ما هممنا به- فقال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] فكانت التهلكة الإقامة التي كنا هممنا بها، فأمرنا بالغزو، فما زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله عز وجل. والقولان قائمان من الرواية: قوله فيها- فهذا عندي خفيف، والأول عندي في كثف وقوة ليس إلى ذلك بمضطر، يدل على الكراهة، وقوله يختلف أن يكون الرجل يحمل احتسابا بنفسه على الله، كما قال عمر بن الخطاب إلى آخر قوله، يدل على الجواز، وهو قول القاسم بن مخيمرة، وبالله التوفيق، والحمد لله كما يجب لجلاله.

.مسألة هل للوالي أن يحابي أحدا من أهل الصلاح:

ومن كتاب الغزو:
مسألة قال أشهب: سئل مالك عن البعوث المكروهة تقطع على الناس إلى المغرب ومثلها، فيتجاعلون فيها، فيغرم المتخلفون للخارجين، ويكون للوالي الهوى في بعضهم من أهل الصلاح والفضل، فيرفعهم فيجعلهم في رفعة، لئلا يكون عليهم غرم من المتخلفين الجاعلين لمن خرج؛ فقال: ما أدري ما هذا: يخرجهم من الغرم ويغرم غيرهم، ما له لا يعطيهم من ماله- وكأنه كرهه: قيل له: إن الوالي يكون له رفع على كل حال لابد له منهم يرفعهم، فإن احتاج إليهم استعان بهم- إن بدا له، فإذا وقع البعث المكروه الذي يكون فيه الغرم، جاء الرجل منهم الذي له الصلاح والفضل، فطلب الرفع في رفع الوالي لأن ينجو من الغرم؛ فقال مالك ليس هذا بالذي سأل عنه الرجل، وأرى هذا شيئا قد جعل إلى السلطان، فهو أحق من الأول؛ فقيل له: لا ترى بهذا بأسا؟ فقال هذا أخف.
قال محمد بن رشد: يريد بالبعوث المكروهة المخوفة التي يكره الخروج إليها لخوفها، فيكثر الغرم على الجاعلين فيها من أهل الديوان للخارجين إليها منهم؛ لأن المجاعلة إنما تجوز لأهل الديوان فيما بينهم، فكره مالك للوالي أن يحابي أحدا من أهل الصلاح، بأن يجعله في أهل رفعة الذين يمسكهم مع نفسه لحاجته إليهم، ولا يتركهم يخرجون في ذلك البعث ليسقط بذلك عنهم ما كان يلزمهم من الغرم مع المتخلفين الجاعلين للخارجين؛ وخفف له إذا لم يقصد إلى محاباة أحد، ولم يكن له بد من أن يمسك مع نفسه بعضهم لحاجته إليهم، وأن يجيب من سأله من أهل الصلاح أن يجعله منهم إلى ما سأله من ذلك، وذلك مكروه للسائل، فإذا قصد الوالي إلى محاباة أحد بهذا الفعل دون أن يسأله ذلك، كانت الكراهة في حيزه دون الرجل، وإذا سئل ذلك ففعله، كان الأمر أخف عليه منه على الرجل السائل، فهذا معنى قول مالك عندي في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

.مسألة يأكل في أرض الإسلام فضلة ما يخرج به من طعام العدو:

وسئل مالك عن الذي يصيب القربة أو العسل في أرض الروم- وربما لت بالعسل جريرته، أينصرف إلى بلاده يأكله؟ قال: لا بأس بذلك إذا كان يسيرا.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أن للرجل أن يأكل في أرض الإسلام فضلة ما يخرج به من طعام العدو إذا كان يسيرا.

.مسألة الغازي يجد الغرارة يحتاج إليها يجعل فيها متاعه:

فقيل له: أفرأيت الغازي يجد الغرارة يحتاج إليها يجعل فيها متاعه، والجلد يحتذيه، والشيح لدواء البطن، فقال: ما أرى به بأسا أن يأخذه، وهذا تضييق على الناس، وما كل الناس يكون معه في الغزو ما يكفيه مما يحتاج إليه؛ قيل له فإن أحدهم أتى بكبة الخيط فيشتريها بدانق، فيطرحها في المقاسم، قال هذا شيء يراؤون به، وما هذا التضييق على الناس؟!
قال محمد بن رشد: أما ما لم يكن له من هذا كله ثمن، فله أن يأخذه- احتاج إليه أو لم يحتج إليه، وأما ما كان له من ذلك ثمن، فله أن يأخذه إن احتاج إليه على ما في المدونة، خلاف قول ابن نافع، وقد مضى بيان هذا كله في أول رسم من سماع ابن القاسم، وهذا إذا كان الشيح مما قد حازه الروم في بيوتهم؛ وأما إن كان من نبات الأرض المباح الذي لم يحوزوه إلى بيوتهم؛ فقد مضى القول فيه في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم.

.مسألة الوالي يخرج بالخيل للقتال فيأتيه الرجل يستعيره فرسا يقاتل عليه:

وسئل مالك عن الوالي يخرج معه بالخيل في أرض العدو فيأتيه الرجل فيستعيره فرسا من خيله يقاتل عليه، فيعيره فيقاتل عليه؛ لمن ترى سهما الفرس؟ فقال سهمه للذي استعاره، أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو اشتراه، أو اكتراه، أو تعدى عليه أو وجده عابرا عند حومة القتال فقاتل عليه، لكان سهماه إليه؛ وكذلك لو أعاره ذلك على أن يكون سهما الفرس بينهما، أو على أن يكونا لصاحب الفرس، إلا أنه يكون عليه فيه أجرة مثله، ولو لم يكن للرجل إلا فرس واحد فتعدى عليه رجل فركبه، وقاتل عليه- وصاحبه حاضر، أو وجده عند القتال- وهو عاثر، لكان سهماه لصاحبه، بخلاف الاشتراء والعارية والكراء، وبخلاف التعدي إذا لم يكن صاحبه حاضرا، وهذا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في أن السهم إنما يستحق بالقتال لا بالإيجاف، وأما على مذهب ابن الماجشون الذي يرى أن السهم يستحق بالإيجاف، فلا يكون للذي قاتل على الفرس سهمانه في شيء من هذه الوجوه، إلا أن يوجف عليه أو يصير بيده بحدثان الإيجاف وقبل مشاهدة القتال، حتى يتمكن في كينونته له وفي يده.

.مسألة يغزو بفرسين أيسهم لهما جميعا:

وسئل فقيل له: أفرأيت الذي يغزو بفرسين، أيسهم لهما جميعا؟ فقال: لا يسهم إلا لفرس واحد.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وأصحابه في المدونة وغيرها، وقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسهم لفرسين، ولا يسهم لأكثر من ذلك. وذهب إلى ذلك غير واحد من العلماء، وعمل به عمر بن عبد العزيز في خلافته، وأخذ به ابن وهب من أصحاب مالك.

.مسألة استؤجرأعوان يكونون في المراكب قذافين أيقسم لهم:

وسئل مالك فقيل له: إنا إذا أردنا الغزو استؤجر لنا أعوان يكونون في المراكب قذافين، وغير ذلك من الأعمال من رفع الصواري، ووضعها، وإمساك الحبال والأرجل، وما يحتاج إليه المركب، يكون ذلك لهم شيئا لازما لذلك استؤجروا؛ فإذا قدموا أرض الروم، كان منهم المسلم والمولد الحر، ترك منهم من كان كذلك، فشهدوا القتال، وأبلوا بلاء عظيما، فلا يقسم لهم؛ أفترى أن يقسم لهم؟ فقال: وأين هذا؟ فقيل في البحر، فقال: يتخذون مثل هذا في الصوائف؟ فقيل نعم، يستأجرون فعلة لتسوية الطريق، وقطع الشجر، وإصلاح المواضع التي فيها ضرر على المسلمين: يوسعون ضيقها، ويرفعون حجارتها عن الطريق، وغير ذلك مما يحتاج إليه؛ يستأجرونهم رصدة ذلك وعدة، ثم يشهدون القتال مع الناس فيقاتلون؛ أفيعطى هؤلاء شيئا؟ فقيل لا؛ فقال: فهؤلاء مثلهم- وكأنه لم ير لهم شيئا؛ قيل له إن ابن معيوف كان يحلف الرجل يخرج مع عمه أو مولاه يخدمه وينفعه، فيحلفه على أنه لم يخرج لخدمته، فإن لم يحلف لم يسهم له؛ فقال: بئس ما صنع ابن معيوف، وفي الغزو أيمان؟ وإن الرجل ليخرج مع أبيه أو مع مولاه في الغزو يعينه ويكفيه، فبئس ما صنع.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في المدونة، والواضحة، من أن الأجير يسهم له إذا شهد القتال وقاتل؛ وفي كتاب محمد بن المواز أنه يسهم له إذا شهد القتال- وإن لم يقاتل؛ وأما إذا لم يشهد القتال، فلا اختلاف في أنه لا يسهم له؛ قال محمد عن أبيه: والذي يكرى للغزو لا سهم له إلا أن يقاتل؛ وكذلك مكتري الدواب في الغزو مثل الأجير، قال سحنون: ويحط عن الأجير من أجرته بقدر ما اشتغل عن خدمة الذي استأجره؛ ومن أهل النظر من ذهب إلى أن رواية أشهب هذه، ليست بمخالفة لما في المدونة، وغيرها؛ وقال: معنى هذه الرواية في الإجارة العامة، ومعنى ما في المدونة وغيرها في الإجارة الخاصة، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الإجارة العامة هي أقرب أن يكون له فيها السهم- إذا قاتل من الإجارة الخاصة، فإذا لم يوجب له السهم في الإجارة العامة، فأحرى ألا يوجبها له الإجازة الخاصة- والله أعلم؛ وإنما أنكر على ابن معيوف تحليف الرجل خرج مع ابن عمه أو مولاه، أنه لم يخرج لخدمته، إذ لم يره كالأجير؛ وكان الحكم فيه عنده أن يسهم له قاتل أو لم يقاتل؟ وأما من ادعي عليه أنه أجير فأنكر، فلا يبعد عليه اليمين- إن لم يقاتل على ما في المدونة، وإن قاتل على هذه الرواية، وبالله التوفيق.

.مسألة رفع الأصوات بالتكبير على السواحل أو في الرباط:

ومن كتاب الأقضية:
وسئل مالك عن رفع الأصوات بالتكبير على السواحل، أو في الرباط بحضرة العدو، أو بغير حضرتهم؛ هل ينكره، أو يسمع الرجل نفسه؟ فقال: أما بحضرة العدو فلا بأس، وذلك حسن؛ وأما بغير حضرتهم على السواحل فلا بأس بذلك أيضا، إلا أن يكون رفع صوته يؤذي الناس، لا يستطع أحد أن يقرأ ولا يصلي، فلا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب الجهاد من المدونة، وزاد فيه أنه أنكر التطريب؛ وأنكر ابن حبيب أن يتقدمهم واحد بالتكبير، أو التهليل، ثم يجيبه الآخرون بنحو من كلامه جما غفيرا، وأجاز أن يحزن تكبيره وأنكر في رسم أحد يشرب خمرا من كتاب الصلاة- التكبير دبر الصلوات بأرض العدو، وسكت عن التكبير في غير دبر الصلوات؛ فذلك كله مفسر بعضه لبعض، ليس فيه اختلاف من قول مالك؛ وما حكى ابن حبيب من استحباب التكبير ثلاثا دبر صلاة العشاء والصبح، في الثغور والمرابطات والعساكر، خلاف لمذهب مالك- ومذهبه أظهر؛ لأنه أمر محدث لم يكن في الزمن الأول، ولو كان، لنقل وذكر- والله أعلم.

.مسألة أسلم من المشركين بعد إساره أيمنعه ذلك من القتل:

وسئل مالك عمن أسلم من المشركين بعد إساره، أيمنعه ذلك من القتل؟ قال: نعم في رأيي.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله». أي والله يحاسبهم عما قي نفوسهم إن كانوا أظهروا للإسلام وهم لا يعتقدونه بقلوبهم. وقد روي «أن المقداد قال لرسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ: أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ بشجرة فقال: أسلمت لله؛ أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، فقال رسول الله: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك- قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال». وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأسامة لما قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله- ظنا منه أنه قالها تعوذا، «فكيف يصنع بلا إله إلا الله»، وأعاد ذلك عليه حتى تمنى أنه أسلم ذلك اليوم، وبطل ما كان قبل ذلك من عمله، وبالله تعالى التوفيق، لا إله إلا هو.

.مسألة يغزون أرض الروم فيقتلون من أبقارهم بالسيوف فتعرقب ثم تذبح فتقطع بالسيف:

ومن كتاب الجنائز والذبائح والنذور قال:
وسئل مالك عن القوم يغزون أرض الروم فيقتلون من أبقارهم بالسيوف، فتعرقب ثم تذبح فتقطع بالسيف؛ فقال: ما هذا بحسن، ولا أحب أكله.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يكون معنى هذه الرواية أنها عرقبت ثم ذبحت قبل أن تنفذ مقاتلها بالسيوف، فيكون وجه كراهيته لأكلها قطعهم إياها بالسيوف بعد ذبحها على سبيل الانتهاب للحمها،- لما جاء في النهبة، وقد مضى القول فيها في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب العقيقة؛ ويحتمل أن يكون معناها إنما ذبحت بعد إنفاذ مقاتلها بالسيوف لامتناعها، فيكون قوله: ما هذا بحسن، ولا أحب أكله، ليس على ظاهره في التخفيف؛ لأن المعلوم من مذهبه أن الإنسي لا يذكى بما يذكى به الصيد- وإن امتنع، ولا يؤكل إلا أن يذبح أو ينحر، كان له أصل في التوحش أو لم يكن؛ خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أن البقر الإنسية وما أشبهها مما له أصل في التوحش- إذا ندت وامتنعت؛ كان سبيلها سبيل الصيد في ذكائها؛ بخلاف الإبل وما أشبهها مما الأصل له في التوحش، ومن أهل العلم من جعل سبيلها سبيل الصيد- وإن لم يكن لها أصل في التوحش؛ وحكى ذلك البخاري عن ابن مسعود، وابن عباس، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وعائشة؛ وبوب باب ما ند من البهائم، فهو بمنزلة الوحش، وأدخل حديث رافع بن خديج- وفيه قال: وأصبنا نهب إبل وغنم، فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء، فافعلوا به هكذا». وهذا لا حجة فيه، لاحتمال أن يكون السهم حبسه دون أن ينفذ مقاتله فذكي، وكذلك ما حكى ابن حبيب من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا استوحشت الإنسية أو امتنعت، فإنه يحلها ما يحل الوحشية، يحتمل أن يريد بذلك الإنسية من الوحش، فتتخرج الأحاديث على مذهب مالك.

.مسألة يغيرون في أرض الروم فيوافون قدورهم على النار مملوءة لحما أتؤكل:

وسئل عن الجيش يغيرون في أرض الروم، فيوافون قدورهم على النار مملوءة لحما، أتؤكل؟ فقال: وما يمنعه أن يأكل؟
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أن آكل ذلك له حلال، لقول الله عز وجل: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. إلا أن يدع رجل في خاصة نفسه، مخافة ألا تكون قدورهم طاهرة- على ما مضى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح والصيد.